أخبار عاجلة

قصة أول عالم آثار مصري: وقف في وجه الملك لمنع إهداء قطعة ثمينة فرد فاروق «الفلاح عملها فيّا»

عُرف في زمنٍ مضى باسم «عميد الأثريين»، وهو أحد أعلام المصريين في علم الآثار، وأول عالم آثار مصري يُنقّب عن الآثار، كما قدَّم العديد من الدراسات الرائدة في هذا المجال، كان منها عمله الأبرز «موسوعة مصر القديمة»، ولكن بعد وفاته في عام 1961، اندثرت سيرته حتى أصبح الآن منسيًا، إنهُ العالم الجليل وأول من نقَّب عن الآثار التاريخية في مصر، سليم حسن.

داخل قرية «ميت ناجي»، التابعة لمركز ميت غمر، بمحافظة الدقهلية، ولدَ سليم حسن عام 1893، بعد أنّ توفي والده، فنشأ يتيمًا لأم أرادت أنّ تجعله صلبًا من الصِغر، فظلّت تُقول لهُ بعد أن باعت مصاغها قطعة وراء الأخرى ليتمم دراسته: «اسمع يا سليم بابني، لابد تكمل علامك، والراجل بيعيش مرة واحدة، ولاجل ده لازم يعيش دكر (رجُل بالعامية المصرية)»، كمّا وثقّت الكاتبة، سناء البيسي، ذلك في مقالها الذى نُشر على بوابة الأهرام، تحت عنوان «سليم حسن عاشق المحروسة».

التحق سليم في صغره بالمدرسة الابتدائية، ثم أصرت والدته أن يلتحق بالمدارس العليا، فحصل على شهادة البكالوريا عام 1909، والتحق بعد ذلك بمدرسة المدرسين العليا، واختار أن يكمل دراسته بقسم الآثار المُلحق بهذه المدرسة، والتى كان يتقاضى منها جنيهين راتبًا شهريًا من وزارة المعارف يقتسمها مع شقيقته، إلى أن تخرّج عام 1913.

«عشت أيامًا مريرة أنام علي الطوي، يصفق الجوع بطني بينما أنتزع من الجنيه قروشًا أشتري بها كتابا أحتضنه ككنز ثمين‏,، وظلت مكتبتي التي تحوي آلاف الكتب تضم بعضًا من كتب اشتريتها يومًا بدلا من الطعام»، هكذا وصف سليم حسن، تلك الفترة العصيبة من حياته، وفقًا للمقال المذكور سابقًا «سليم حسن عاشق المحروسة».

كان يقول سليم حسن عن والدته: «أمي الفلاحة الشامخة بجلابيتها السوداء التي قدمتها بفخر للسفير البريطاني السير مايلز لامبسون ــ اللورد كيرن فيما بعد ــ عندما كان يحلو له زيارتي أثناء عملي في الحفائر الأثرية فانحني لها ــ وهو من كان وقتها بمثابة نصف إله ــ شاكرا أمومتها التي أنجبتني عالمًا‏».

بعد التخرج، حلُم الدكتور سليم حسن بالالتحاق بالمتحف المصري، لكي يكون أمينًا مساعدًا به، إلا أن تلك المحاولات فشلت لأن الوظائف آنذاك داخل المتحف، كانت مقتصرة على الأجانب، لذلك لجأ حسن للعمل كمدرس للتاريخ بالمدرسة الأميرية.

وفي عام 1921، وبعد ضغط من الحكومة المصرية، تم تعيينه بالمتحف المصري، وكمّا ذكرت الكاتبة، سناء البيسي، في المقال المذكور سابقًا، كان السفر حلمًا لسليم حسن، فبعد التحاقه بالمتحف، كان يدخر كل قرش يأتيه من تأليف الكتب، لكّي يسافر للخارج، وبالفعل في عام 1922، تحقق حلمُه، وسافر سليم على نفقته الخاصة لحضور الاحتفال بمرور مائة عام علي حل شامبليون لرموز اللغة الهيروغليفية‏,‏ وهناك بدأ رحلة البحث والتسجيل للآثار المصرية في الخارج راصدًا واصفًا القطع المسروقة.

وعندّ تجول دكتور سليم في المتاحف آنذاك، اقترب منه رجل ليهمس في أذنه ضاحكًا: «انظر للتحفة التي أمامك، إنها رأس نفرتيتي، من آثار القدماء المصريين، إنها من مصر»، وأضاف ساخرًا: «أنا الشخص الذي سرقها، لأن المصريين لا يعرفون شيئًا عن آثارهم».

لم يحتمل دكتور سليم تلك الكلمات الساخرة من معرفة المصريين بتاريخهم، وفي اليوم التالي نشر عدة مقالات في جريدة «الأهرام» تحت عنوان الآثار المصرية في متاحف أوروبا، كاشفًا عن أسرار سرقة الآثار، مما أحدث ضجة عالمية وقامت حملة ضد السرقات الفاضحة للآثار المصرية.

يُعتبر سليم حسن أول عالم آثار مصري الجنسية ينقب عن الآثار، وفى عام 1929 تم انتدابه للتنقيب عن الآثار بمنطقة الهرم لحساب جامعة القاهرة، ليكون صاحب أول بعثة علمية منظمة لأعمال التنقيب بأيدٍ مصرية، وتم اكتشاف مقبرة «رع ور» وهي مقبرة كبيرة وضخمة بها العديد من الآثار.

وفي عام 1936، عُينَ سليم حسن وكيلًا عامًّا لمصلحة الآثار المصرية؛ ليكون بذلك أول مصري يتولى هذا المنصب، كمّا تم تنصيبه رئيسًا للبعثة التي ستحدد مدى تأثير بناء السد العالي على آثار النوبة، ثم انتخب في عام 1960م عضوًا بالإجماع في أكاديمية نيويورك التي تضم أكثر من 1500 عالم من 75 دولة، وطلب منه أن يكتب موسوعة عن النيل.

كان العالم سليم حسن حريصًا طوال الوقت على الآثار المصرية، مما وضعهُ في موقف محرج مع الملك فاروق عام 1946، كمّا روى، وفقًا للكاتبة، سناء البيسي: «كان المتحف المصري مغلقا بسبب الحرب‏،‏ وفي هذه الأثناء كانت بعثة من الفرنسيين تعمل في‏ (‏صان الحجر‏)‏ لاكتشاف ملوك الأسرة الـ‏21,، واكتشفت البعثة آثار كاهن مات في سن الثامنة رغم أنه كان كبير الكهان واسمه‏ (‏حورنحت‏)‏ وتقدر آثاره بنصف مليون جنيه‏».

وتضيف سناء البيسي: «كان مدير المتحف فرنسيًا اسمه‏ (‏دريتون‏)‏ فاتفق مع البعثة علي نقل هذه الآثار إلي متحف اللوفر في فرنسا‏،‏ وتم الاتفاق أيضا علي التقدم إلى الملك أثناء حفل افتتاح المتحف بعد الحرب ومشاهدة الآثار المكتشفة بطلب منحها لهم مكافأة على اكتشافها‏، واستعانوا بامرأة حسناء أوقفوها عند جناح تلك الآثار في انتظار وصول الملك‏».

وتابع طبقًا للمقال: «جاءني كبير أمناء المتحف محمود علي حمزة ليبلغني بالمؤامرة‏,، فطلبت منه الإسراع بتسجيل التحف فورا‏,، وفي يوم الاحتفال فوجئ الجميع بحمزة يعلن أنه سجل تلك الآثار وأنها أصبحت ملكًا للدولة‏.، وثار فاروق في وجه حمزة قائلا‏:‏ (هو أنا سألتك سجلتها ولا لأ‏..‏ لقد كان فاروق يريد منح الآثار للبعثة ولكنه أحرج‏,، ويومها جمعت مندوبي الصحف وأعلنت أمامهم أن مولانا المبجل يفتخر بهذه الآثار‏,، وبأنها أصبحت ملكا للدولة فأحرج فاروق وقال يومها لرجال السراي‏:‏ (هو برضه الفلاح اللي عملها فيه؟)».

من الحكايات التى سردها دكتور سليم حسن أيضًا، بخصوص تعامل الحُكام المصريين منذ قديم الأزل مع الآثار، كانت حكاية الخديو عباس الأول، عندّما أراد أن يحتفل بالأمير النمساوي، الأرشيدوق مكسمليان، وأعد له جوادا عربيا مطعمًا بلجام من الذهب الخالص وسرجه مطعم بالجواهر والأحجار الكريمة‏,، فطلب الأمير النمساوي بدلا من ذلك الجواد شيئًا من الآثار المصرية القديمة‏,، فقام عباس بإهدائه جميع آثار الدفتردار‏,، وخرج النمساوي بالهدية التي لا تقدر بمال وهو لا يكاد يصدق نفسه خاصة أن الجواد الذهبي قد تهادى في المقدمة ليركب السفينة مع الأرشيدوق في طريقه للنمسا‏»، وفقًا لما جاء في المقال المذكور سابقًا.

قام دكتور سليم بتأليف «موسوعة مصر القديمة»، والتى يتخطّى عدد صفحاتها 12 ألف صفحة، مقسمة إلى ١٦ جزءًا، بالإضافة إلى جزأين عن الأدب المصرى القديم، وصدرت على مدار 20 عامًا، وتعد تراثًا ضخمة في أي مكتبة.

و«في أواخر أيامه، عاش الدكتور سليم، في بيت رومانسي صغير شيده بالقرب من الأهرامات»، وفقًا لوصف الكاتبة، سناء البيسي، والتى قالت: «بيت تحيطه حديقة صغيرة غناء يجمع فيها ألوانا من الزهور يرعاها ويسقيها بنفسه‏,، يصحو مع الفجر للصلاة ويجلس ليكتب ويفتح كتبًا قديمة صفراء ليكتب صفحات منيرة بيضاء‏,، وفي الأنحاء نسخ من تماثيل فرعونية تردد وتجدد حكاياتها‏,، وعلي الحوائط لوحات رائعة من نسيج ناعم طرزتها أنامل زوجة فنانة شاركته عشق التاريخ‏,‏ ونقلت مواقعه ومعاركه بالتطريز في دقة بالغة».

وقبل وفاته، سُأل الدكتور سليم «لماذا تشرد بعيدًا؟»، فقال «أحلق مع أحزاني لما لاقيته من عقوق ومازلت ألاقيه من البعض‏,‏ حتي من هم في سن أولادي يستدعونني الآن إلي مكاتبهم لأتلقي أوامرهم بطريقة فظة تشعرني بالمهانة‏».

وأضاف: «في أوروبا يحترمون العلماء إلي أقصي حد‏..‏ كنت أقف في صف طويل لأحد البنوك في باريس‏,‏ وفي حديث عابر مع الرجل الذي يتقدمني عرف أني عالم الآثار المصري الذي قام بتأليف مجموعة من كتب الآثار المصرية‏,‏ فما كان من الرجل وغيره من الواقفين إلا أن ألحوا لأتقدم الصف كي أنتهي وأنصرف لعملي».

في 30 سبتمبر 1961، رحل عن عالمنا العالم الأثري، سليم حسن، في هدوء شديد، دون تكريم أو احتفاء رسميّ تقديرًا لما قدمه طوال سنواته العملية للآثار المصرية، فكانت أخر كلماته: « الحياة كوميديا للذين يضحكون‏,‏ ومأساة للذين يتأثرون».‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *