عندما فاز الفرنسي موديانو بجائزة نوبل،
منذ أعوام، صرّح لجمهور الصحفيين قائلاً: “أريد أن أوجّه للجنة نوبل سؤالاً واحداً:
ما هو مقياس الفوز بهذه الجائزة؟”
وعندما فاز المغنّي الأمريكي ديلون بالجائزة
أصابته المفاجأة بشلل أعجزه عن التعبير، بل وحتى عن الاستجابة لمساءلات القائمين على
أمر الجائزة، فاحتجب عن وسائل الإعلام، معانداً دهشةً كادت أن تتحوّل في مسلكه احتجاجاً
في حقّ ما ارتآه مزحةً من جناب الحظّ؟
ولكن كل هذه الصفعات لم توقظ لجنة الجائزة
من غيبوبتها، كما لم توقظها صفعة سارتر في ستينيات القرن، مستغلّةً حصانتها، كأيقونة
نزّهها مجدها عن الواقع، واستودعها منزلةً فوق النقد، ففضّل فرسان الأدب مُهادنتها،
وتسامحوا مع شطحاتها، سعياً لخطب وِدّها، ناسين أنها لم تكن لتوجد إلاّ لتكون لهم أمَةً،
فإذا بها تغترّ، لأن تَذلّلِهم في حضرتها نصّبها على عرش الإلهام طاغيةً!
فما هو حكم الإحسان أصلاً، في واقعٍ باطلٍ،
الإنسان فيه بطل أبطالٍ، منذ سوّقه محفل الحكماء السبعة مقياساً لكل الأشياء؟
ببساطة حكم الإحسان يكمن في ما يحسن هذا
الإنسان. أي أنّ ما يحسن الإنسان، الذي هو عمل هذا الإنسان، هو القيمة الجديرة بأن
نستنزل في حقها الإحسان.
فالعمل لا يدرك مستوى الاستثناء، الذي يطوّعه
كي يستقيم في ترسيمةٍ عصيّةٍ كالقيمة، ما لم يحقق غلبَةً على العادة، ليبلغ في تجربة
التضحية المدى الأقصى. أمّا الإحسان، أو بعبارة أخرى، المكافأة عن هذا الإنجاز، فخاضعٌ
لتقييمٍ مشفوعٍ بروح إجماع، تنزيهاً للمسألة عن الهوى، وتشبُّهاً في الحُكم بسادن الوجود،
الذي يراقب فصول مهزلتنا من وراء حجاب.
أي الانتصار لمنطق العدالة.
ماذا تقول العدالة في حقّ مكافأة إنسانٍ
أحسن عملاً، وطرحه للعالمين نَذْراً لمرضاة الله، وليس قرباناً لاستمالة الظلال الشقيّة
التي تثقل كاهل الأرض؟
كلمة العدالة صريحة، لأنها لا تستحي بأن
تحكم للقياس.
ولكن القياس دوماً موضوع جدل. ولن نَقنع
بحقيقة القياس ما لم نستشِر جناب العدالة مرة أخرى، التي لن تتردّد في أن تتحفنا بمنطوق
الحكم: القياس في الاستحقاق.
ولكن الاستحقاق ليس مُسَلَّمَة مستعارة
من وصايا السلف، ولكنه نبوءة رهينة ذخيرة ذلك العمل الذي كان له الفضل في إنتاج القيمة.
وهو، في حال الأدب، النصّ!
هذا النصّ الذي اغترب من واقع كهنة معبد
نوبل، وآثروا أن يتجاهلوه طوال تجربة نصف القرن الأخير، برغم أن حظّه من الاستعمال
ظلّ هزيلاً حتى في العقود السبعة من عمر جائزةٍ، هي، في الأصل، مجرّد مكافأة، والفضل
يرجع للعمر المديد الذي حوّلها في واقع عالمٍ لم يقنع بأن يحيلها أيقونةً وحسب، ولكن
افتتانه بالأسطرة دفعه لأن يعمّدها عرّابة حظوظٍ، يروقها أن تجود على المريدين بشهادات
الخلود!
فبأيّ سببٍ صار الاحتكام إلى ساحة النصّ
تحدّياً، إلى الحدّ الذي تحوّل في سيرة الجائزة تهمةً شكّكت في نزاهتها دوماً؟
فالانحراف عن الصراط لا يستقيم بدون حجّة.
وهو عُرفٌ تعلّمناه من الأدب نفسه، حيث لا نعترف بنموذج يعتنق دين الشرور بدون وجود
مبرّر لاقتراف ما اعترفنا به كشرّ. فثمّة دوماً حُجّة في تصريف الخطايا أيضاً، ولجنة
نوبل لم تكن لتكون استثناءً في هذه التجربة. فالذريعة، لإقصاء النصّ، في المتناول هنا
أيضاً، يهديها لنا الأدب نفسه الذي لم يملّ من أن يتغنّى بالذائقة. الذائقة التي لا
تخضع لقوانين رياضيّة تُكسبها حصانةً، ولكنها حسناء تُدين بدين التسامح، وتبارك الخلاف
في كل ما متّ بصلة للجمال، سيّما الأدب، المسكون بروح تاسوع ربّات الفنون، اللائي قمن
بسنّ ناموس المعزوفة، التي لم تكن لتُسقِط الأبطال في الأسر لو لم تتعدّد فيها الأوتار.
فبأيّ حقٍّ نُحَكّم سلطان الحقّ في حقّ نصٍّ مفتوح على الذوق العامّ، ذوقٌ لم يرتضِ
لنفسه تنزيهاً عن النقد منذ البدء، استنارةً بالوصيّة الشائعة التي تبريء ذمّة مَنْ
خالفنا في مسألة ذات علاقة بالذوق؟
هذه أوّل حُجّة استخدمها محفل الكهنة كي
يتحرّروا من وِزر المسئولية الأخلاقيّة الناتجة عن خلع وسام الاستحقاق في حقّ أناسٍ
خذلوا مبدأ الاستحقاق، ليحدث بذلك الخلل في القاعدة التي يجب أن تكون ناموساً يهتدي
بفحواها القطبان، والقائلة: بأن الجائزة، أية جائزة إذا وُهبت عن استحقاق، فهي شرفٌ
لمن نالها، وشرفٌ آخر لمن وهبها، في حين أنها تغدو عاراً في جبين من نالها، وكذلك في
جبين مَن وهبها، إذا وُهبت عن غير استحقاق!
من أين يستعير الاستحقاق هويّته كاستحقاق؟
إذا كان المستودع الذي ينهل منه الاستحقاق
هو النصّ، فمن أيّ مستودع ينهل النصّ؟
النصّ يستعير مؤهّلاته من القيمة التي تسكن
النصّ.
ولكن من أيّ مستودع تستعير القيمة شهادتها
كقيمة؟
لا وجود لمستودعٍ يمكن أن تنهل منه القيمة
قيمتها كقيمة غير: الحقيقة!
هذه الحقيقة هي الوصيّ الوحيد الذي يستطيع
أن يُفنّد حجّة الذائقة الجمالية، ويسخر من التسامح في شأن الأهواء التي تتلاعب بهويّة
النصّ، لتبرّر طرده من فردوس الواقع، لتحابي في المقابل نصّاً عارياً من الحقيقة، وكل
مؤهّلاته هي الإمتاع، المشفوع بمشيئة أفيون الزمان: التسلية!
فهل يقتنع السَدنة بالمسألة؟
كلّا، بالطبع. ففي الجعبة دوماً ذرائع مفروضة،
لا بفلسفة ألفريد نوبل في تأسيس المكافأة، ولكن مفروضة بحرف الحداثة! أي بمناخ الواقع
السياسي القائم، في حقبة ما بعد الحرف العالمية الثانية تحديداً، لا الأولى. أي الواقع
الذي ترعرعت فيه المفاهيم، وأينعت في رحابه نزعات، ما لبثت أن تُرجمَت كمبادئ، إلى
أن استقامت أخيراً في بعبعٍ، سُوِّقَ كقدس أقداس، كما الحال مع: القيَم.
هذه القيم هي ما رُفع كسهمٍ إجباري، على
الأدب أن يتّخذه دليلاً إذا شاء أن يُعترف به كحاملٍ للواء الاستحقاق، في عُرف السدنة،
برغم غموض فحواه، في مغامرة ما لبثت أن استعارت ماهية المؤامرة، هدفها الاحتيال على
الحقيقة!
وليس مصادفةً أن ينقلب السهم الإجباري إلى
توجيه جبريّ صريح، على مريدي شهادة الخلود المزعومة أن يروّضوا إلهامهم كي يفلحوا في
التغنّي بمزاياه، ولم يخجل الحواة أن يلصقوه بنعتٍ اجتنبوه طويلاً، لكي لا يُتَّهَموا
بالعصبيّة، لتستقيم التميمة في صيغةٍ حاسمةٍ هي: “القيم الأوروبية”، كأنّ
قيم أوروبا غنيمة أعظم شأناً من القيم الإنسانية، التي تُدين لها بالولاء كل القبيلة
البشرية، أو كأنّ هذه القارّة وحدها هي الوصيّة على المُثل الإلهية، من دون كل الخليقة؛
وهو ما يعني أن سدنة المحفل اعترفوا أخيراً بما حاولوا أن يخفوه دوماً، وهو اعتبار
الجائزة وَقفاً قاصراً على الأمم الأوروبية، ولم تكن لتُمنح في الماضي لرموز أدبية
خارج القارة العجوز إلاّ من باب المجاملة، لا بسلطة الاستحقاق.
من هذا الباب المهيب، المجلّل بلقبٍ نبيلٍ
كالقيمة، في بُعدها الثقافي الأوروبي، تسلّلت إلى حرم النصّ، آفات سدّدت طعنات موجعة
إلى جناب القيمة أوّلاً، لتنتهي إلى طعن ذخيرة القيمة: الحقيقة!
فالتحريض على اعتناق القيم الأوروبية تحوّل
مع مرور الوقت إلى إدمان معالجة هذه الدعوة، لتستقيم تالياً في نهج تلقينٍ، نَصّبَ،
في البداية، الموقف السياسي على الواقع ربّ أرباب، ولم يتوقّف حتى تُوِّجَ بآفة الآفات،
المترجَمة في حرف الأيديولوجيا، التي احتلّت مكانة المعبود، البديل للمعبود.
نزعة تسييس الوجود هذه مارست على الواقع
طغياناً شاملاً، ما لبث أن زعزع القياس، وأطاح بالاستحقاق، وأقصى النصّ من المعادلة،
لتغدو الحقيقة خصماً مبيناً، بعد أن كانت للقيم الأخلاقية مبشّراً، وفي حياة الأنام
ملاذاً.
من حقّ الإنسان الأوروبي أن يستمتع بثمار
واقعه الطبيعي سواء في مستواها المادي أو في بُعدها المعنوي، بما في ذلك احتكار غنيمةٍ
رَصَدَها أحد أبنائه للاحتفاء بأخيارٍ من جنسه، مكافأةً لهم على إحسانهم لعملٍ، ولكن
ليس من حقّ هذا الإنسان أن يلقّننا دروساً في العولمة محاولاً أن يقنعنا بحسن نواياه
في تحويل كرتنا الأرضية إلى قرية صغيرة تتسع للجميع، وتتيح الفرص للجميع، ويتساوى الجميع
في شأن الحقوق، كما في شأن الواجبات، حسب عرف أيّة شراكة، لئلّا يبدو الأمر مجرّد احتيال
للاستحواذ على ثروات العالم الطبيعية، لتسيير ترسانة الغرب الصناعية؛ أما شرف الفوز
بإحسان رفيع، مجسّم في جائزة مجلّلة بهالة مهيبة كنوبل، فهذه غنيمة غير قابلة للقسمة،
لأن الاحتفاء بالثمار الروحية امتياز ظلّ وسيبقى حكراً على إنسان هذا الواقع، شهادة
له على تفوّقه العقليّ، التاريخيّ. والدليل؟ الدليل تتحفنا به تلك المرّات النادرة،
التي تنازل فيها المحفل عن استكباره، وتصدّق بحسنات، عن استحياء، لبعض الرموز في أنحاء
تقع خارج حدود المركز، لا من باب الاعتراف بأصالة النصوص، ولكن لذرّ الرماد في عيون
الأبرياء، دون أن يخفي السدنة استخفافهم بقيمة النصوص، من خلال جهلهم بفحوى ما أجازوا.
وعلّ ملابسات فوز هرمٍ روائيٍّ عالميٍّ في مقام نجيب محفوظ أقوى برهان على ذلك: فما
نعلمه أن ما قادهم إليه ليس رأسمال هذا الراهب الذي نذر نفسه لمساءلة أحجية هذا الوجود،
وسخّر نصّه لاستطلاع الحقيقة في هذا الوجود، ولكن القدَر هو صاحب الفضل في لعبة المحفل
الذي لم يقرأ هذا النصّ، لأنه لم يكن معنيّاً بسلطة النصّ يوماً، فقرر في أحد الأيام
أن يستيقظ من غيبوبته، بوحيٍ من الواقع السياسي في تلك المرحلة، التي استقطع فيها عمر
الجائزة تسعة عقود كاملة، دون أن يكتشف وجود أعرق قطب ثقافي على مستوى العالم، يسكن
مساحة قارّة، تنتصب في قلب العالم، حملت على عاتقها وزر رسالة الحضارة الإنسانية الأجدر
بالإكبار من بين كل حضارات العالم، ولكن المحفل استبعد رموزها، طوال تجربة وسامه الشقيّ
التي أشرفت في عام 1988 على القرن. تجاهلٌ ترجَم في العُرف فضيحةً لا تُغتفر، في وقتٍ
كانت فيه هذه المكافأة تطوف ربوع العالم بحثاً عن منشقٍّ عن هذا النظام هنا، أو عجوزٍ
أشرف على تسليم زمام أمره للأبدية هناك، فاستحقّ تأبيناً، اعتاد المحفل أن يمارسه،
بحرف الجائزة، في حقّ كل من أشرف على الهاوية، فلم يخطئ برنارد شو عندما استصدر فيها
حكماً يقارنها بطوق النجاة الذي يُرمى للغريق بعد أن يكون قد بلغ الشاطئ!
ونجيب محفوظ لم يكن غريقاً، برغم أنه بلغ
من العمر ما يؤهّله لأن يحتلّ منزلة الشرف على الشاطئ: شاطئ الوجود، قبل أن يكون شاطئ
العمر، مادام القياس، بمنطق الوجود، هو العمق، لا الأفق.
فماذا فعلت اللجنة الموقّرة لكي تنصف أمّةً
عظيمةً لها الفضل في صنع مجد الحضارة الإنسانية، سوى الاستعانة بأهل الشورى، لتقييم
موقفها من واقع أممٍ تتوسط عالمنا كقارّة حقيقية، وكان من الطبيعي أن يقع الاختيار
على الإنسان الذي كان ضمير الأمّة، ممثلاً في نموذج هو نجيب محفوظ، الذي لم تحفل اللجنة
بنصّه، ووجدت نفسها مجبرةً على الاحتفاء بشخصه، انتصاراً لليقين الحداثي القاضي بتغييب
النصّ، مقابل الاحتفاء بشخص مؤلّف النصّ، استجابةً للعقلية السائدة التي آلت على نفسها
أن تعتنق مفهوم “القيم الأوروبية”، الذي سنّه كهنة معبد ما بعد الحداثة ناموساً
لقياس نبض الواقع الإنساني؟
فما هي مؤهّلات النزعة التي نصّبتها العقلية
القائمة على الوجود معبوداً، وفرضتها بالقوة على واقع الإبداع لتكون له ملهماً؟
المؤهّلات هي تلقين الأجيال تعويذةً سوّقتها
لنا الحداثة كترياقٍ لكل الأمراض الوجودية، وهي: الديمقراطية!
ديمقراطية نخطئ بالطبع عندما نتبنّاها كجنينٍ
شرعيّ لما اعتدنا أن نسمّيه حرية، لأنها، بالهوية، تدجين لهذه الحرية، بحيث تستقيم
في ترسيمةٍ، رأس المال فيها هو: الانتخابات!
وكان علينا أن نتحلّى بالصبر كي نكتشف أن
هذه الجنيّة، المدعوّة باسم الانتخابات، هي تجربة دامية اقترفت في حقّ أناسنا الأشقياء
أبشع الجرائم، ولا تنتمي في الواقع الحرفيّ لأيّة ديمقراطيّة تتغنّى بالحرية الموعودة،
لأنها مجرد تضحية بالمضمون لحساب شكل، بدل أن تكون تضحية بالشكل في سبيل مضمون. والدليل
تتحفنا به أول انتخابات، في أول تجربة ديمقراطية، في روسيا، عقب انهيار الإمبراطورية
السوفييتية مباشرةً، والتي كان لمحرر هذا البيان شرف المثول في واقعها كشاهد عيان.
ففي أول جلسة للبرلمان المنتخب من قبل الشعب، شهد الواقع خلافاً عصيّاً بين المحفل
المخوّل باستصدار فرمانات تسيير الدولة بمنطق القانون من جهة، وبين رئيس دولة مستهتر،
مدمن، لا أخلاقيّ، كل مؤهّلاته في الوصول إلى هذا المنصب هو الولاء للغرب، وهو الفيتو
الذي استخدمه كحجّة لرفض قرار مجلس الأمّة، لعلمه بأن الفرمان الأقوى من كل قانون.
وها هو الأمر يتطوّر ليبلغ مرحلة اضطرّ فيها البرلمان أن يلجأ للاعتصام داخل مقر المجلس
إلى حين تنفيذ قراره. فإذا بالعالم يصحو في أحد الأيام على قيام يلتسين بقصف مقر البرلمان
بالقنابل من فوهات المدافع، في جريمة تاريخية جديرة بعقوبات من منظمة الأمم المتحدة.
ولكن ما حدث هو العكس: لقد هلّل الغرب لعميله يلتسين، وهنّأه على انتصاره على تلك الفئة،
المجبولة في تقاليده بالحصانة لا في بُعدها الحرفيّ وحسب، ولكن في مستواها الأخلاقي،
بل والربوبيّ، أيضاً، إذ يكفي أنها منتخبة. ولكن الغرب تناسى قدس أقداسه، وضحّى بـ”قيمه”
في سبيل غاية معيبة هي: النفع! دون أن يرتفع في واقع هذا الغرب صوت احتجاج، مما يعني
أن “القيم الأوروبية” التي تغنّى بها، والديمقراطية التي يتشدّق بها ساسته،
وكل المبادئ المعتمدة كقرون استشعار في تقييم أية أفعال قد تمارسها الأطياف التي تستوطن
الشاطئ الآخر، وتحرّض العقلية على تبنّيها في محافل الإبداع، لكي يكون الأدباء أنبياءٍ
لها في أعمالهم، ما هي في الحقّ سوى معبودات وثنيّة، أُريدَ لها أن تسود، لكي تكون
حجّة لاحتكار الحقيقة. لأن احتكار السلطة رهين احتكار الحقيقة!
وإلاّ ما ضرّ “القيم الأوروبية”
أن تستقيم في قيم إنسانية، تجير واقعنا الشرق أوسطي، الشمال إفريقي، من النزيف الفجيع
الذي حلّ في ديارنا في العقد الأخير، حاملاً خلاصاً مزعوماً في حرف تميمة باسم الانتخابات؟
فالقيم الإنسانية هي اليقين الذي هدهده
نجيب محفوظ، تماماً كما أدمنه كل مبدعي الأرض منذ الأزل، ليكون ترياقاً لمداواة جراح
الجنس البشري، لينتزع هؤلاء اعتراف الأجيال، قبل أن تتفضّل لجنة نوبل لتستنزل في حقّهم
اعترافاً، هم في غنى عنه، لأن مَن روّض النفس على التحديق في سيماء الأبدية وحده لا
يريد أيّ شيء، ومن لا يريد أي شيء وحده يملك كل شيء.
فالمتأمّل لذاته، المستكفي بنفسه، وحده
عالمٌ بذاته، وهو الكُفء لأن يستوعب النبوءة القاضية بأن يعرف نفسه، فإذا عرف نفسه،
لم يعجزه أن يعرف ربّه، ومَن عرف ربّه وحده لا يعود في حاجة لتزكية من أوصياء هذا الباطل،
لكي يعبر البرزخ، ليحلّ في رحاب الفردوس المستعاد، ليغدو سفيراً لأشقياء هذا العالم،
لدى ملكوت البُعد المفقود، لا لشيء إلاّ لأنه حقق معجزة الميلاد مرّتين.
فالرهان يكمن في الاستغناء عن تلك الغنيمة
المعيبة التي اعتدنا أن نخلع عليها اسم النفع. النفع ليس في بُعده المادّي وحسب، ولكن
في ماهيّته المعنوية أيضاً. فالصيت الذي نتوخّاه من غلبَةٍ مّا هو أيضاً نفعٌ. بل والمجد
الذي نتوقّعه من إحسان، سواء في صيغة مديح، أو في حرف جائزة، هو أيضاً نفع. والبطولة
الحقيقية إنّما تسكن الزهد في كل ما مَتّ بصلة لحُطام الدنيا، والتضحية بكل ما ارتأته
الظلال التي تثقل كاهل اليابسة ذا قيمة، هو دَيْنٌ في رقبة مريد الحقيقة، ليقينه بأنه،
في واقع مهزلتنا الأرضية، هو، لا سواه، قربان!
فالنفع تجربة ليست معصومة من الدنس بطبيعتها،
مما يضع كل الحسنات التي نجود بها في عالمنا موضوعاً لاستفهام، سيّما بالنسبة لجائزة
حامت حولها في الأعوام الأخيرة شبهات فساد؛ وهو تصعيدٌ كافٍ لبصم الغنيمة بلطخة الإثم،
الذي يسري ورماً خبيثاً في نشاطنا الدنيوي، ولا خلاص منه إلاّ باعتناق دين تلك الحرية،
التي لا نهتدي إليها إلاّ بإدمان الصلاة في حرم الشعيرة الزهديّة. فكما نخرج من هذا
العالم عراةً، كما نزلناه يوماً عراةً، كذلك يجب أن نُدبِرَ عن هذا العالم أحراراً،
كما نزلناه يوماً أحراراً.
مَن منّا يستطيع أن يجازف فيُجزم بجواز
أن نجيز بجائزةٍ مَن أحسن عملاً؟
فأن نحسن عملنا ليس فضيلةً منّا، أو بطولةً
نجود بها، ولكنه، ببساطة، سدادٌ لدَيْن، مجرد أداءٍ لواجب. والتراث مستودعٌ ثريّ لأمثلة
استعرناها من ذخيرته بالمجّان. فقد حدث أن استقبل الفاروق عمر، زمن خلافته، وَفداً
ينتمي إلى قبيلة شاعر عبقريّ في قامة زهير ابن أبي سُلمى، ليجابههم الفاروق بسؤال:
“أين البُرَد التي خلعها زعيمكم “هرم” على شاعركم زهير ابن أبي سُلمى؟”،
فلم يملك الوفد إلاّ أن أجاب على لسان طليعتهم: “لقد أباد الزمان البُرَدُ يا
أمير المؤمنين”، فما كان من أسطورة الأجيال، الحكيم عمر بن الخطّاب، إلاّ أن أعلن:
“ولكن البُرَد التي خلعها شاعركم زهير بن أبي سُلمى على زعيمكم خالدةً لا تفنى”.
وأحسب أن شهادة إنسانٍ في مقام الفاروق عمر لهي الجائزة الأنفس من جوائز الزعيم
“هرم” الذي أقسم ألاّ يقع بصره على زهير ابن أبي سُلمى إلاّ ووهبه جاريةً
أو جواداً، مكافأةً له على قصائد المديح التي جاد بها عليه. وهو ما جعل ابن أبي سلمى
يتخنّس، وينتهز الفرص ليتوارى عن نظر الزعيم في كل مرة، لكي لا يضطرّ إلى تلقّي الجائزة
الموعودة من يدي الزعيم. وهو ما يعبّر، في رأيي، عن وعيٍ فطريٍّ مبكّر بحقيقة الجوائز،
لأنها، في عقلية الإنسان البرّي، جنسٌ من إهانة، وليست تعبيراً عن استحسان. وأعتقد
أن الحَرَج، بل والخجل، الذي يستشعره كل مَن فاز بجائزة يوماً، إنّما هو إلهامٌ من
إبداع الإحساس بالإهانة. إهانة ترتقي أحياناً إلى مستوى اقتراف خطيئة.
والسبب؟
السبب يكمن في خيانة الدَّيْن. يكمن في
التجديف في حقّ الواجب؛ لأن المكافأة هنا لا تعود وثيقة مديح في حقّ العمل، ولكنها
تستعير بُعداً معيباً. تستعير بُعد الرشوة!
وتلقّى رشوة، مقابل أداء واجب، هو خطيئة.
والخطيئة كما نعلم قصاصٌ غيبيّ، لن نستشفي منه إلاّ بقبول حرف القصاص.
والإحساس بالإثم سوف يتضاعف في واقع محفل
ملّة شديدة الشفافية كالشعراء، وكل من دان بدين الشعراء، لسببٍ بسيط وهو أن التجديف
هنا ليس في حقّ الواجب وحسب، ولكنه في حقّ الحقيقة برمّتها! وكل ما فعله زهير بن أبي
سُلمى بفراره من وجه زعيم حكيم مثل “هرم”، هو تعبيرٌ عفويّ جريء وعميق عن
هذه المحنة التي عرفها ويعرفها كل من استنزلت الأقدار في حقّه تلقّي جوائز هي في الواقع
ليست امتناناً على إحسان، كما يتوهّم البسطاء، ولكنها عدوانٌ صريحٌ على حُرمةِ ما أُهِلّ
به لوجه الله، وليس لوجه خلق الله، لتحرم صاحب العمل سعادة الحرية، المجرّدة من حرفٍ
موجع هو النفع، ليتمكّن هذا الشاعر الفذّ من تلقيننا الدرس السامي، بانتقامه المسبق
من كل مَن سوّلت له نفسه أن يستعير دور ربّ الأرباب بوصفه المخوّل الوحيد بأن يُجيز،
لأنه القوة الوحيدة العادلة في حكم الاستحقاق، الذي أعجز ويعجز كل المحافل الدنيوية.
فالجائزة هنا تتنكّر لهويّتها
كعطاء، وتستعير ماهيّة المؤامرة. المؤامرة الماكرة التي تسحب البساط من تحت أقدام البطولة،
محتجبةً خلف قناع الإحسان؛ فلا يتوقّف مفعولها عند إبطال مفعول تلك السعادة المقدّسة،
التي تتلبّسنا عندما نضحّي في سبيل استرضاء الضمير، الناجم عن أداء الواجب، ولكن الإحساس
بالإثم، الناتج عن فوزٍ مزعوم، مبثوث في حرف هبة هي شَرَك، إنّما يُميت فينا الحافز.
يُميت التَّوق لمواصلة الرسالة، لتنتهي التجربة إلى إحباط يقلع فيه المبدع عن إدمان
هذا الأفيون المسمّى في معجمنا واجباً. والدليل؟ الدليل تقدّمه لنا كل الجوائز، بما
في ذلك جائزة نوبل، حيث برهنت التجربة
على إقلاع كل من نالها عن ممارسة عمل هو
قبل كل شيء رسالة، فصدقت وصية برنارد شو عن حقيقتها كطوق نجاة يُرمَى للغريق بعد أن
يكون قد بلغ الشاطئ، لأن الغاية منه ليست إنقاذنا من الغرق، ومواصلة الإبحار، ولكن
الغرض منه هو أن نصاب بالشلل، ونكفّ عن الإبحار، نكفّ عن ممارسة عملنا، نكفّ عن أداء
واجبنا، نكفّ عن الإبداع. وهو ما عبّر عنه أحد الحكماء عندما صرّح مرّة قائلاً أن المجتمع
يفعل كل ما بوسعه لكي يقعد المبدع عن إبداعه ما أن يحقق نجاحاً. يفعل المجتمع ذلك عادةً
بفنون التكريم، وضروب الاحتفاء، الذي يرتقي إلى مرتبة الجوائز، كل ذلك لكي يُميت الموهبة،
ويطفئ الشعلة، ولا يهنأ بالاً ما لم يتوقّف نزيف الروح القدسي في قلب المبدع، عملاً
بالنبوءة القائلة بأن الأنام تغفر الفشل، ولكن هيهات أن تغفر النجاح. وهو ما يعني أن
كل مراسم التكريم التي نجود بها في حقّ مَن حقّق فلاحاً هي، في الواقع، مشفوعة بروح
المكيدة، وغايتها الإطاحة بصاحبها كي لا يجرؤ على تكرار هذا العمل، والجوائز هي فخٌّ
لم يوجد إلاّ ليُعيق.
ولكن الفاروق عمر وحده كان رئيّاً عندما
أوْحَى للوفد الزائر بأن زعيمهم ليس هو مَن كان له شرف إجازة شاعرهم، ولكن شاعرهم هو
مَن أجاز زعيمهم، بدليل أن جوائز الزعيم فانية، ولكن جوائز الشاعر خالدة!
وهو ما يجب أن يَصْدُق على جائزة نوبل كما
يجب أن يصدق على أية جائزة أخرى، مما يحقّ لنا أن نقرأ الآية مقلوبةً على طريقة السحرة،
فنقول: “لجنة نوبل الفائزة بجائزة طاغور، أو فوكنر، أو هيسه، أو مّان أو محفوظ،
أو ماركيز”، بدل الخطيئة التي نرتكبها في خطابنا عندما نفعل العكس، فنتوّج اسم
المبدع باسم صاحب الجائزة، لأن أعمال هؤلاء خالدة، أمّا مكافأة اللجنة الموقرة فزائلة،
وهو ما حَدَسَهُ سارتر عندما حرَمَ الجائزة من شرف الفوز باسمه، معبّراً بهذا الموقف
النقدي، الزهدي، الوجودي، عن تبرئة ذمّته من وَسْمٍ هو في يقينه تُهمة!
فالرفض هنا اعترافٌ بحَرَج، هو في حقيقته
إحساسٌ بالخجل. خجلٌ ناجمٌ عن الإحساس بوجود إهانة. الخجل نفسه الذي يصفه سارتر كمفكّر
يساري بـ”العادة الثورية”.
فالمفارقة، في النهاية، تكمن في أن الجائزة
التي سُوِّقَتْ يوماً لتكون تكفيراً عن خطيئة مالبثت أن تنكّرت لرسالتها تالياً لتغدو
حُجّة اغترابٍ عن حقيقة!