كتبت\هبه عبدالله
نستعرض في هذه الحلقة من سلسلة حلقات “كنوز مصرية بعيون عربية وإسلامية” قصة حياة زعيم مؤثر وملهم وقائد عسكري فذ، كان له تأثيرا كبيرا في المجتمعات العربية والإسلامية باعتباره قائد ثورة التحرر الوطني والاستقلال من الاحتلال الأجنبي خلال القرن العشرين، وأحد مهندسي وداعمي حركات التحرر الوطني في الدول العربية والإسلامية وكذلك بعض دول القارة السمراء، حلقة اليوم سنتناول خلالها الحديث عن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
ولد جمال عبد الناصر في الـ 15 من يناير عام 1918 في محافظة الإسكندرية وتعود جذوره إلى قرية بني مر بمحافظة أسيوط بصعيد مصر، تاريخ ولادة عبد الناصر ظل راسخا في عقول شعوبنا العربية والإسلامية لأنه شهد ولادة أحد أكثر القادة الثوريين والسياسيين وكذلك العسكريين تأثيراً في المنطقتين العربية والإسلامية خلال القرن العشرين.
توفيت والدة عبد الناصر وهو في سن الثامنة قبل أن ينتقل للدراسة في القاهرة بدعم من عمه، ثم انتقل إلى الإسكندرية، حيث يعمل والده في إدارة البريد، استقر نهائياً عام 1933 في القاهرة في وقت كانت فيه الأوضاع السياسية في مصر خطيرة، حيث استمرت البلاد خاضعة للهيمنة والاستعمار البريطاني، انخرط عبد الناصر في أوساط الطلاب وشارك عام 1935 في تنظيم مظاهرة احتجاجية على إعلان أحد الوزراء البريطانيين أن دستور عام 1923 الديمقراطي والذي علق العمل به عام 1930 غير قابل للتطبيق، قتل العديد من الشباب المصري في هذه المظاهرة وجرت حملة اعتقالات واسعة، ويعد هذا الحراك مقدمة لحركة ستؤدي إلى إعادة العمل بدستور 1923 وستفضي إلى توقيع المعاهدة الأنجلو-مصرية لعام 1936، حظيت مصر بهامش مناورة واسع تجاه القوة الاستعمارية لكن القوات البريطانية التي تتواجد في البلاد خاصة قناة السويس بقيت عقبة رئيسية وتحدي كبير للشعب المصري.
أنهى عبد الناصر دراسته الثانوية وقرر التوجه إلى الأكاديمية العسكرية التي باتت منذ عام 1936 مفتوحة أمام أبناء الطبقة الوسطى بعد أن كانت محصوراً في أبناء العائلات الكبيرة والأرستقراطية، ويعود الفضل في ذلك للتحركات التي قادها حزب الوفد خلال هذه الفترة لتحقيق هذا الهدف.
تخرج “ناصر” عام 1938 برتبة ملازم ثان، أرسل بعدها إلى محافظة أسيوط ثم إلى السودان حيث قضى عامين، وحرص عبد الناصر خلال هذه الفترة على متابعة الحراك السياسي في مصر خاصة مع صعود نفوذ الإنجليز وكان العام 1942 شاهدا على هذا التحرك بإجبار المستعمر البريطاني للملك فاروق، على إقالة رئيس وزراءه علي ماهر وتعيين زعيم الوفد النحاس باشا، ما تسبب في مرارة كبيرة في نفوس ضباط الجيش.
عين جمال عبد الناصر أستاذاً في الأكاديمية العسكرية عام 1943 وتم قبوله في “مدرسة الحرب” عام 1946، ساهمت القضية الفلسطينية في تشكيل شخصية “ناصر” الذي رفع شعار “قضية العرب المركزية”، حيث كان يعتبر أن القضية الفلسطينية أحد أفضل السبل لتشكيل وحدة عربية يكون هدفه الأساسي دعم شعب مظلوم ومحتل.
أسس “ناصر” تنظيم الضباط الأحرار السري التي تألف من خمس لجان هي الشؤون المالية، مجموعات الصدام، الأمن، الدعاية، السلاح، حيث ركز التنظيم على تحرير مصر من الاستعمار وتحقيق الاستقلال بطرد القوات البريطانية، وكانت هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948 سببا رئيسيا في تسريع حراك الضباط الذين اعتبروا الملك فاروق مسؤولاً رئيسياً عن هزيمة 1948، وتمكن الضباط الأحرار من إسقاط الملكية وإعلان الجمهورية في 23 يوليو عام 1952.
ركزت السياسة الخارجية للزعيم جمال عبد الناصر على أن ثورة 1952 لم تستبدل الملكية بالجمهورية وأحدثت تغييرا جوهريا فى نظام الحكم فحسب، بل امتد هذا التغيير إلى الدبلوماسية المصرية، حيث رسم زعيم الأمة رؤية ومنهج فى الداخل والخارج، مكنه من من إحداث انتصارات لافتة، تخللها تجارب مريرة، وفترات إنجاز وقصور، وقد شكلت فى مجملها مرحلة تاريخية من أدق المراحل التى مرت بها مصر ليحمل عن جدارة لقب “زعيم الأمة”.
وضع الزعيم الراحل اللبنة الأولى فى أسس السياسة الخارجية المصرية الحديثة، وشرح مرتكزات ثلاثة فى كتابه “فلسفة الثورة”، والتى ظلت تمثل المرجع الأول لسياسة مصر الخارجية، رغم بعض المتغيرات التى طرأت عليها السنوات الأخيرة، حيث قسم عبد الناصر السياسة الخارجية المصرية إلى دوائر ثلاثة، الأولى الدائرة العربية، الدائرة الافريقية، والأخيرة الدائرة الإسلامية، فى الدائرة الأولى نجد أن عبد الناصر أولى اهتمامًا بالغًا بالأمن القومى العربى، الذى رأى أن أى تهديد لأى بلد عربى يعد تهديدًا لكافة البلدان العربية.
وفى كتابه “فلسفة الثورة”، قال الزعيم عبد ناصر: “دوائر الحركة الخارجية لمصر يجب أن تبدأ بالدائرة العربية التى يربطها بمصر تاريخ مشترك ومصالح عميقة، وأن أى تهديد يوجه لدولة عربية يكون، موجها بنفس الدرجة إلى كل الدول العربية، واعتبر كتابه أن أهمية البترول العربى وما ينتظره من دور حيوى فى السياسة الدولية وما يمكن أن يوفر مصدر قوة للعرب”.
خلال الفترة بين عامي 1962 و1967، عزز عبد الناصر علاقاته مع موسكو في إطار تحركاته لخلق توازن في العلاقات المصرية مع الدول الكبرى وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي، وعمل ناصر على استضافة قمم ركزت على فكرة تحرير الدول العربية والإسلامية من الاستعمار، دعم الزعيم الراحل الثورة الجزائرية بالسلاح والمال لمساعدة الأشقاء في الجزائر على تحرير وطنهم، وأيضا مؤتمر القمة لحركة عدم الانحياز في نوفمبر 1964، ساهم عبد الناصر في تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م.
التحركات التي قادها عبد الناصر لتحرير الأمتين العربية والإسلامية توجته قائد وزعيما للأمة وباتت صوره حاضرة في صفوف حركات التحرر الوطني التي استلهمت روح ثورة يوليو 1952 كدافع لها لتحرير بلادها من الاستعمار الأجنبي، وارتكزت حركات التحرر على فلسفة ناصر في ضرورة التركيز على إرادة الشعوب ودورها المهم في التحرر الوطني والقضاء على الاستعمار.