لم ينشغل التاريخ الإنساني قط بقضية مثل تحديد شخصية فرعون موسى، فقد احتلت هذه القضية مساحة واسعة لدى المستشرقين والمؤرخين وعلماء الآثار
على السواء، كما مثلت بؤرة شغف وفضول لدى المتدينين كافة.
وفي حديثنا اليوم، نحاول أن نجيب عن هذا السؤال من زوايا مختلفة غير التي أنفق السابقون جم وقتهم في إثارتها والبناء عليها، من حيث سبر أغوار المدد الزمنية المستمدة من التوراة والقرآن وتفاسير العلماء المسلمين، ومحاولة الوصول منها إلى شخصية هذا الفرعون، التي عادة ما يخلصون منها إلى التركيز على الفراعنة الأطول حكماً وعمراً؛ حتى يمكن من خلالها استيعاب مدد زمنية تتعدى الأربعين عاماً لحكم فرعون موسى على أقل تقدير عند البعض، وتصل عند آخرين إلى 400 سنة!
ونظراً لتضارب هذه المدد بين التوراة والتفاسير والتاريخ الفرعوني، فقد حاولنا أن نسلك مسلكاً آخر إلى هذا الفرعون، مرجحين ما توافقت عليه أغلب الدراسات من أن فرعون موسى من ملوك الأسرة الثامنة عشرة (الدولة الحديثة)،
وأن لقب فرعون (من برعا وتعني: البيت العالي) كما تقول الموسوعة البريطانية، استُعمل مرادفاً لملك مصر بالمملكة الحديثة، منذ الأسرة الـ18 (1539 ق.م – 1292) ق.م.
ومنها، نستطيع أن نلمس دقة القرآن في استعمال الألقاب، فعند الحديث في القرآن الكريم عن يوسف عليه السلام كان الخطاب عن ملك، بينما كان الخطاب مع موسى عليه السلام مع فرعون، وهو ما ينفي أن فرعون كان اسماً وليس لقباً كما تدعي بعض الدراسات، وكان النص القرآني صريحاً كالآتي: “وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ استخلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّا كَلّمَهُ قَالَ إنكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ” [سورة يوسف: ٥٤].
وبحْثنا عن إجابة عن اسم فرعون موسى سوف يتضمن وقفات عند النصوص القرآنية، واختيارنا القرآن؛ لأنه المصدر الأكثر وضوحاً وتماسكاً. ونستهلها بقوله تعالى في سورة الأعراف: “وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون” [سورة الأعراف: 137]، لنبدأ رحلتنا عبر التاريخ والآية تحمل إشارة هامة؛ أن فرعون الذي نبحث عنه دُمّرت آثاره ولم يعد لها وجود.
وهو ما يجعلنا نرجح أن الفرعون الذي نبحث عنه هو أحمس الأول مؤسس الأسرة الثامنة عشرة، أعظم الأسر الحاكمة في مصر، وطارد الهكسوس وحكَم من 1550 ق.م حتى 1525 ق.م.
ومن أقدم الآثار التي تذهب معنا في هذه الجهة، ما ساقه المؤرخ اليهودي يوسيفيوس بن متى، الذي عاش في القرن الأول الميلادي أن مانيتون -المؤرخ المصري الذي كتب تاريخ مصر القديم نحو عام 280 ق.م (للأسف، فُقِد في حريق مكتبة الإسكندرية عام 48 ق.م)- أشار إلى أن طرد الهكسوس من مصر بواسطة أحمس ليس إلا خروج بني إسرائيل من مصر، ومن ثم فالمنطقي أن أحمس هو فرعون موسى،
وربما كان أوزرسيف الذي حاصره أحمس في شاروهين هو موسى نفسه.
فهل الهكسوس حقاً هم اليهود؟
كلمة “الهكسوس” هي تحريف للكلمتين المصريتين حقاو وخاسوت التي تعني حكام الأراضي الأجنبية وهي إحدى التسميات التي أطلقها المصريون على الآسيويين بشكل عام، وقد ترجمها مانيتون في تاريخه المفقود بمعنى ملوك الرعاة، فالمقطع الأوّل “هك” يعني باللسان المقدّس “مَلِكا”، وأمّا “سوس” فتعني “بدوياً”، وذلك إنّما هو بحسب اللسان الدارج.
وهو ما يتفق مع قوله تعالى في القرآن على لسان يوسف لأبيه وإخوته لَمّا دَخَلوا عليه مصرَ: “وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ”.
نعود مرة أخرى إلى إشارة القرآن إلى تدمير آثار الفرعون ومدى انطباقها على أحمس الأول وقومه، فلك أن تعلم أن مصدر المعلومات عن حرب أحمس مع الهكسوس كان مقبرة أحد قواده المدعو (أحمس ابن أبانا)، حيث يروي هذا القائد على جدران مقبرته تاريخ حياته، وكيف أنه تنقَّل في الخدمة العسكرية كقائد لإحدى السفن، ويذكر كيف تبع سيده في حربه مع الهكسوس،
وكيف سقطت أواريس (عاصمة الهكسوس وهي مدينة صان الحجر حالياً بمحافظة الشرقية) بعد حصارها، وكيف فر الهكسوس إلى مدينة (شاروهين) في جنوب غزة، وكيف حاصرها الجيش المصري حتى أسقطها، وكيف هربت فلول الهكسوس إلى زاهي (كلمة مصرية قديمة كانت تشير إلى منطقة فلسطين وسوريا).
وهذا ينقلنا إلى سؤال: أين الآثار الضخمة التي تليق بحاكم بمثل هذه القوة؟! والإجابة تحملها لنا لوحة The Tempest Stele التي تؤرخ إلى عصر أحمس الأول، حيث حدثت عاصفة مدمرة مصحوبة بفيضان أو سيول مدمرة دمرت المعابد والأهرام وعُثر على أجزاء من هذه اللوحة في معبد الكرنك (بدأ في بنائه الملك أمنحتب الثالث من 1405 حتى عام 1370 قبل الميلاد)، وهو ما يجعل صورة الفرعون الذي وضع ملامحه القرآن أكثر قرباً.
ولا تتعدى آثار أحمس الباقية لوحة بمعبد الكرنك ذُكر فيها أنشطته واتساع ملكه وعلاقات مصر بجيرانها، وأُشير فيها إلى الدور الذي قامت به والدته الملكة أعح حتب في القضاء على الهكسوس.
إناء من المرمر نُقش عليه اسم أحمس الأول وآخر للزينة من الخزف الأزرق، ويوجد عليها صور الأسرى، فضلاً عن تماثيل صغيرة له والكثير من الجعارين مبعثرة عبر متاحف العالم، بالإضافة إلى البلطة والخنجر المعروضين في متحف الأقصر ولم يعثر له على مقبرة حتى الآن!
ولأن الآية تطرقت إلى مصير جمع آثار فرعون بقومه، فإن والد أحمس وهو سقنن رع كل ما وصلنا عن جهاده ضد الهكسوس هو وثيقة متأخرة من عصر الرعامسة عرفت باسم (بردية ساليه) ترصد كيف بدأ النزاع بين ملوك طيبة والهكسوس، وأن الملك سقنن رع (الثاني) كان في ذلك الوقت حاكماً على طيبة وكان معاصراً لملك الهكسوس أبوفيس (أبيبي) الذي أرسل يطلب منه إسكات أفراس النهر في مياه طيبة لأنها تزعجه وهو في قصره بالدلتا!
كما أن شقيق أحمس والسابق عليه في الحكم وهو الملك كامس وصلت إلينا معاركه ضد الهكسوس عن طريق لوحة لصبي في إحدى المدارس كان مدرسه قد أملاها عليه كقطعة إملاء وقد اشتهرت باسم (لوحة كارنارفون)، ولوح حجري عُثر عليه في أساسات معبد الكرنك وعليه 38 سطراً من الكتابة!
وهو ما يعني أننا أمام فرعون وقومه دمرت آثارهم إلا من بضعة أسطر بين أركان المعابد! وهو ما نجد له تفسيراً مقبولاً من خلال هذه العاصفة التي طالت أيضاً معابد الأسرة الـ17، وهي الأسرة السابقة على أحمس والتي يمثلها أبوه وأخوه.
التوقف الثاني لنا سيكون عند قوله تعالى: “وَقَالت امرأة فِرْعَوْنَ قُرّة عَيْنٍ لِي وَلَكَ” [سورة القصص: 9]. وهو ما يعني أن فرعون موسى كان عقيماً أو لا يعيش له أبناء.
والفرضية الثانية نجدها منطبقة تماماً على أحمس الأول؛ فقد تزوج أحمس بشقيقته نفرتاري التي أنجبت له ثلاثة أبناء، أحدهم هو خليفته أمنحتب الأول، وقد توفي أبناؤه الأول والثاني في سن صغيرة، وأربع بنات هن: مريت آمون، وسات آمون، وإعح حتب، وست كامس. كما يبدو أن ابنه أمنحتب الأول قد رُزق به متأخراً، وهو ما يظهر جلياً من وفاة أحمس الأول الغامضة عن عمر ناهز الأربعين أو الخمسين تقريباً ووصاية زوجته على ابنه أمنحوتب الأول، حتى بلوغه سنّ الحكم.
التوقف الثالث لنا سيكون عند قول فرعون “أَنَا رَبّكُمُ الْأَعْلَىٰ” [سورة النازعات: 24]، وقوله في المعنى نفسه: “مَا عَلِمْتُ لَكُم مّنْ إِلَهٍ غَيْرِ” [سورة القصص: 38]. والقول الأول لفرعون يعني عند بعض المفسرين أنه يقول: أنا سيدكم، أنا حاكمكم، الذي تجب عليكم طاعته، ولا تعني بالضرورة أنه هو خالق الكون وحتى وإن أخذنا بالمعنى الحرفي للربوبية، فعبادة أحمس كانت منتشرة في البلاد حتى الأسرة الـ19.
نأتي إلى نقطة لا يتوقف عندها الكثيرون؛ وهي زوجة فرعون المؤمنة (آسيا بنت مزاحم) التي آمنت من آل فرعون وتربى في كنفها موسى عليه السلام، وقد صح في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَة خَدِيجَة بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَة بِنْتُ محمد وَآسِيَة امرأة فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ ابْنَة عِمْرَانَ). كما ذكرها القرآن الكريم كمثال للنساء المؤمنات “وَضَرَبَ اللَهُ مَثَلاً لِلَذِينَ آَمَنُوا امرأة فِرْعَوْنَ إِذْ قَالت رَبِ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَة وَنَجِنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَالِمِينَ” [سورة التحريم: 11].
من المحال بالطبع على كاتب التاريخ المصري القديم -الذي دائماً ما يُكتب الرواية الرسمية التي لا بد أن تحمل الثناء على الفرعون وترفعه إلى درجة القداسة وتجعل الجميع يدين له بالطاعة- أن يدوِّن مثل هذا الإيمان والمخالفة الصريحة لفرعون ومن داخل بيته، ولكن يمكن البحث عن زوجة متدينة تعلّق بها المصريون وخلّدوا ارتباطها وعبوديتها لله وهو ما تنفرد به الملكة أحمس نفرتاري (سميت بذلك؛ للتمييز بينها وبين نفرتاري زوجة رمسيس الثاني، وتعني كلمة “نفرتاري” المحبوبة التي لا مثيل لها)، حيث كانت أول من حملت لقب “زوجة الإله” أو “عابدة الإله”، وهو ما يجعلنا نطمئن إلى الترجيح أن نفرتاري هي آسيا.
نأتي للتوراة في سفر الخروج 14 يقول: “فَلَمّا أُخْبِرَ مَلِكُ مِصْرَ أَنّ الشّعْبَ قَدْ هَرَبَ، تَغَيّرَ قَلْبُ فِرْعَوْنَ وَعَبِيدِهِ عَلَى الشّعْبِ. فَقَالُوا: ماذا فَعَلْنَا حَتّى أَطْلَقْنَا إِسْرَائِيلَ مِنْ خِدْمَتِنَا؟ فَشَدّ مَرْكَبَتَهُ وَأَخَذَ قَوْمَهُ مَعَهُ وَأَخَذَ سِتّمائة مَرْكَبَة مُنْتَخَبَة وَسَائِرَ مَرْكَبَاتِ مِصْرَ وَجُنُوداً مَرْكَبِيّة عَلَى جَمِيعِهَا”.
وذكْر استخدام المركبات الحربية على هذا النحو من الوضوح، يعني أننا أمام أحمس، وهو أول من أدخل للجيش المصري العجلات الحربية واستخدمها في قتال الهكسوس.
الأمر الذي أجده الأكثر طرافة في الآثار الفرعونية، أنها على الرغم من صمتها عن رصد الصراع بين فرعون وموسى أَبَتْ إلا أن تضع بين أيدينا قصة طريفة تضع أحمس الأول (الفرعون) وموسى في قضية واحدة؛ بل وفي نزاع حقوقي!
وبالطبع، موسى هذا ليس النبي موسى عليه السلام، ففي قضية نزاع على أرض وَهَبها أحمس الأول لملاحظ سفن يدعي نيشي؛ رداً لاعتباره، نجد اسم موسى الكاتب ببيت مال الإله بتاح!
وبعد أن انتهينا من مناقشة أدلتنا السابقة والتي حرصنا على تنوعها، نأتي إلى اسم فرعون في كتب المفسرين المسلمين، واللافت فيها هو شبه إجماع حول اسم فرعون موسى واسمه الحقيقي (الوليــد بن مُصعَــب)!
وهو ما يجعلنا نبحث عن أصل يربط هذا الاسم بالفرعون أحمس الذي نرجّحه، وقد غلب على الكتابات العربية في مثل هذه الحقب القديمة فيما يتعلق بالأسماء الأعجمية أن يكون تعريبهم لها تعريباً معنوياً وليس لفظياً، والتعريب المعنوي طريقة تعطي معنى للاسم العربي لا تعطيه له طريقة كتابة النطق الأجنبي بحروف عربية، وذلك برجوع الاسم الأجنبي إلى جذوره اللغوية، ثم ترجمة الجذر أو أخذ مرادفه في اللغة العربية واشتقاق الاسم منه، فيكون للاسم العربي نفس معنى الاسم الأجنبي تماماً.
وحتى نطبق هذا على حالة فرعوننا أحمس، فكلمة أحمس تعني المولود من القمر أو القمر ولده (القمر معبود لدى الأشمونيين)، والوليد تعني المولودُ حين يُولَدُ. أما اسم أبيه مصعب، فنرجح أنها صفة لسقنن رع والذي لُقّب بالشجاع، كما أن الشكل الذي وُجد عليه مومياه يوحي بما كان عليه حال الرجل من المنعة والصعوبة، حيث وُجدت ثقوب في الجمجمة نتيجة الضرب بالحِراب والبلاطى على رأسه، ووُجدت أسنانه تضغط على لسانه من شدة الألم! وبتطبيق الأشعة السينية على جسده، وُجد في رأسه خمسة جروح، جرحان كانا على الجبين إثر ضربتَي فأس، وجرح بآلة حادة أعلى الأنف، وآخر على الجانب الأيمن من العين اليمنى، والأخير أسفل العين اليسرى.
نأتي إلى صفات فرعون موسى كما ذكرها المفسرون؛ وهي أنه أحمر قصير كأنه ثور، وأنه كان أصلع وأخينس والخنس (ذو أنف مرتفع ومتأخر عن الوجه قليلا”.
وهناك رواية لأبي بكر أنه قال: أُخبرت بأن فرعون كان أثرم (الثَرَمُ: انْكسارُ السِنِ من أصْلِها، أو سِن من الثَنايا والرَباعِياتِ”. وبمقارنة ذلك بمومياء أحمس التي تم التعرف عليها عام 1886 بواسطة جاستون ماسبيرو، نجد طول المومياء 1.63 سم (أي قصير)، ولها وجه صغير نسبياً بالقياس مع حجم للصدر وأنف بارز.
وقد عثر على مومياء أحمس الأول ضمن خبيئة الدير البحري، وهي مقبرة ضمت أيضاً والده الفرعون سقنن رع تاعا، والفراعنة تحتمس الأول والثاني وتحتمس الثالث ورمسيس الأول ورمسيس الثاني أشهر فراعنة مصر، وقد سقطت في قبضة بعض لصوص الآثار لفترة، وحينما اختلفوا أبلغ أحدهم السلطات فتسلمت مصلحة الآثار المومياوات.
وعندما وصلت هذه المومياوات إلى ميناء روض الفرج، أصر موظف الجمارك على دفع الرسوم المقررة، ونظراً لعدم وجود بند مومياوات عنده فقد أخرجها الموظف بعد دفع الرسوم المقررة عليها بوصفها أسماكاً مجففة!
وفي النهاية، نضع بين يدي القارئ دراسة حاولنا أن نكون فيها محايدين، محاولين أن نصل فيها إلى بعض الحقيقة، وما أصعب الوصول لها في أزمنة غابرة غاب صنّاعها وانطوت صفحات تاريخهم بشكل يستحيل معه اكتمال الصورة الحقيقية